فصل: الخبر عن بقايا قبائل الموحدين من المصامدة بجبال درن بعد انقراض دولتهم بمراكش وتصاريف أحوالهم.

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» (نسخة منقحة)



.الخبر عن بقايا قبائل الموحدين من المصامدة بجبال درن بعد انقراض دولتهم بمراكش وتصاريف أحوالهم.

هذا العهد لما دعا المهدي إلى أمره في قومه من المصامدة بجبال درن وكان أصل دعوته نفي التجسيم الذي آل إليه مذهب أهل المغرب باعتمادهم ترك التآويل في المتشابه من الشريعة وصرح بتكفير من أبى ذلك آخذا بمذهب التكفير بالمثال فسمى لذلك دعوته بدعوة التوحيد وأتباعه بالموحدين نعيا على الملثمين مثال مذاهبهم إلى اعتقاد الجسمية وخص بالمزية من دخل في دعوته قبل تمكنها وجعل علامة تمكنها فتح مراكش فكان إنما اختص بهذا اللقب أهل السابقة قبل ذلك الفتح وكان أهل تلك السابقة قبل فتح مراكش ثماني قبائل سبعة من المصامدة: هرغة وهم قبيلة الإمام المهدي وهنتاتة وتينملل وهم الذين بايعوه مع هرغة على الإجارة والحماية وكنفيسة وهزرجة وكدميوة ووريكة وثمانية قبائل الموحدين: كومية قبيلة عبد المؤمن كبير صحابته دخلوا في دعوته قبل الفتح فكانت لهم المزية بسابقة عبد المؤمن وسابقتهم فاختص هؤلاء القبائل بمزية هذه السابقة وإسمها وقاموا بالأمر وحملوا سريره وأنفقوا في مذاهبه وممالكه في سائر الأقطار على نسبة قربهم من صاحب الأمر وبعدهم وبقي من بقي منهم بمحالهم ومعاقلهم بقية حتوف وجرت عليهم ذيل زناتة من بعد الملك أذيال الغلب والقهر حتى أبقوهم بالأتاوات وانتظموا في عدد الغارمين من الرعايا وصاروا يولون عليهم من زناتة تارة ومن رجالاتهم أخرى وفي ذلك عبرة وذكرى لأولي الألباب والملك لله يورثه من يشاء.

.هرغة.

فأما هرغة وهم قبيل الإمام المهدي قد دثروا وتلاشوا وانتفقوا في القاصية من كل وجه لما كانوا أشد القوم بلاء في القيام بالدعوة وأصلاهم لنارها بقرابتهم من صاحبها وتعصبهم على أمره ولم يبق منهم إلا أخلاط وأوشاب أمرهم إلى غيرهم من رجالات المصامدة لا يملكون عليهم منه شيئا.

.تينملل.

وكذا تينملل إخوتهم في التعصب على دعوة المهدي والاشتمال عليه والقيام بأمره حتى تحيز إليهم وبنى داره ومسجده بينهم فكان يعطيهم من الفيء بقدر عظمهم من الابتلاء وأبعدوا في ممالك الدولة وعمالاتها فانقرض رجالاتهم وملك غيرهم من المصامدة أمرهم عليهم وقبر الإمام بينهم بهذا العهد على حاله من التجلة والتعظيم وقراءة القرآن عليه أحزابا بالغدو والعشي وتعاهده بالزيارة وقيام الحجاب دون الزائرين من الغرباء لتسهيل الإذن واستشعار الأبهة وتقديم الصدقات بين يدي زناتة على الرسم المعروف في احتفال الدولة وهم مصممون مع كافة المصامدة أن الأمر سيعود وأن الدولة ستظهر على أهل المشرق والمغرب وتملأ الأرض كما وعدهم المهدي لا يشكون في ذلك ولا يستريبون فيه.

.هنتاتة.

وأما هنتاتة وهم تلو القبيلتين في الأمر وكل من بعدهم فإنما جاؤوا على أثرهم وتبعا لهم لما كانوا عليه من الكثرة والبأس ومكان شيخهم أبي حفص عمر بن يحيى من صحابة الإمام والاعتزاز على المصامدة وكانت لهم بأفريقية دولة كما نذكرهم فاتفقت الدولتان منهم عوالم في سبيل الاستظهار بهم وبقي بموطنهم المعروف بهم من جبال درن وهو الجبل المتاخم لمراكش على توسط من الاستبداد والخضوع ولهم في قومهم مكان بامتناع معقلهم وإطلاله على مراكش ولما تغلب بنو مرين على المصامدة وقطعوا عنهم أسباب الدعوة كان لرؤسائهم أولاد يونس انحياش إليهم بما كانوا مسخوطين في آخر دولة بني عبد المؤمن فاختصوهم بالإثرة والمخالصة.
وكان علي بن محمد كبيرهم لعهد السلطان يوسف بن يعقوب بن عد الحق خالصة له من بين قومه وهلك سنة سبعين وستمائة على يد ابن الملياني الكاتب بكتاب لبس فيه وأنفذه على السلطان لابنه أمير مراكش فقتل رهط من مشيخة المصامدة في اعتقاله كان منهم:
علي بن محمد فقام السلطان لها في ركائبه وندم على ما فرط من أمره في إفلات ابن الملياني على ما يذكر من أمر هذه الواقعة في أخبار السلطان يوسف بن يعقوب ولما ولي السلطان أبو سعيد وانقطع عن المصامدة ما كان لهم من أثر الملك والسلطان وانقادوا للدولة رجع بنو مرين إلى التولية عليهم من رجالاتهم ودالوا بينهم في ذلك وأخبار السلطان بعد صدر من دولة موسى بن علي بن محمد للولاية على المصامدة وجبايتهم فعقد له وأنزله مراكش فاضطلع بهذه الولاية سنين ورسخت فيها قدمه وأورثها أهل بيته وصار لهم بها في الدولة مكان انتظموا له في الولاية وترشحوا للوزارة ولما هلك موسى عقد السلطان من بعده لأخيه محمد وأجراه على سننه إلى أن هلك فاستعمل السلطان بنيه في وجوه خدمته وعقد لعامر منهم على قومه ولما ارتحل السلطان أبو الحسن إلى أفريقية صحبه عامر فيمن صحبه من أمراء المصامدة وكافة الوجوه حتى إذا كانت نكبة القيروان سنة تسع وأربعين وسبعمائة عقد له على الشرطة بتونس على رسم الموحدين من بيوت الخطة وسعة الرزق وأسام إليه فيها فكفاه همها ولما فصل من تونس ركب الكثير من حرمه وخطاياه السفن لنظر عامر هذا حتى إذا غرق الأسطول بالسلطان أبي الحسن بما أصابهم من عاصف الريح رمى الموج بالسفينة التي كانوا بها إلى المرية من ثغور الأندلس فأنزل بها كرائم السلطان لنظره وبعث عنهن ابنه أبو عنان المستبد على أبيه بملك المغرب فامتنع من إسلامهن إليه وفاء بأمانته في خدمتهم.
وخلص السلطان أبو الحسن بعد النكبة البحرية إلى الجزيرة سنة خمسين وسبعمائة وزحف إلى بني عبد الواد ففلوه ونهض إلى المغرب وسلك إليه القفر حتى نزل سجلماسة فقصده أبو عنان فخرج منها إلى مراكش وقام بدعوته المصامدة وعرب جشم فاحتشد ولقي ابنه بأغمات بجهات أم ربيع فكانت الدبرة عليه ونجا إلى جبل هنتاتة وكان عبد العزيز بن محمد شيخا عليهم منذ مغيب عامر وكان في جملته وخلص معه فأنزله عبد العزيز بداره وتآمر هو وقومه على إجارته والموت دونه فاعتصم بمعقلهم وجاء السلطان أبو عنان في كافة بني مرين إلى مراكش فخيم بظاهرها واحتشد لحصارهم أشهرا حتى هلك السلطان أبو الحسن كما نذكره بعد فحملوه على الأعواد ونزلوا على حكم أبي عنان فأكرمهم ورعى لهم وسيلة هذا الوفاء وعقد لعبد العزيز على إمارته واستقدم عامرا كبيرهم من مكانه بالمرية فقام بهن لأمانته من خطايا السلطان وحرمه فلقاه السلطان مبرة وتكريما وأناله من اعتنائه حظا.
وتخلى له أخوه عبد العزيز عن الأمر فأقره نائبا ثم عقد السلطان لعامر سنة أربع وخمسين وسبعمائة على سائر المصامدة واستعمله لجبايتهم فقام بها مضطلعا وكفاه هم الأعمال المراكشية حتى عرف عناءه فيها وشكر له كفايته وهلك السلطان أبو عنان واستبد على ابنه السعيد ووزيره الحسن بن عمر المودودي وكان ينفس عليه ما كان له من الترشيح للرتبة وبينهما في ذلك شحناء فخشي بادرته وخرج من مراكش إلى معقله في جبل هنتاتة وحمل معه ابن السلطان أبي عنان الملقب بالمعتمد وكان أبوه عقد له يافعا قبيل وفاته على مراكش لنظر عامر فخلص به إلى الجبل حتى إذا استوت قدم السلطان أبي سالم في الأمر واستقل بملك المغرب سنة ستين وسبعمائة وفد عليه عامر بن محمد مع رسله إليه وأوفد ابن أخيه محمد المعتمد فتقبل السلطان وفادته وشكر وفاءه وأقام ببابه مدة ثم عقد له على قومه ثم استنفره معه إلى تلمسان ولم يزل مقيما ببابه إلى قبيل وفاته فأنفذه لمكان إمارته.
ولما هلك السلطان أبو سالم واستبد بالمغرب بعده عمر بن عبد الله بن عمر على ما نذكره وكانت بينه وبين عامر بباب السلطان صداقة وملاطفة وصل يده بيده وأكد العهد معه على سد تلك الفرجة وحول عليه في حوط البلاد المراكشية وأن لا يؤتى من قبله وكان زعيما بذلك وعقد له على الأعمال المراكشية وما إليها إلى وادي أم ربيع وفوض إليه أمر تلك الناحية واقتسما المغرب شق الأبلمة وخلص إليه الأعياص من ولد السلطان أبي سعيد أبو الفضل بن السلطان أبي سالم وعبد المؤمن بن السلطان أبي علي فاعتقل عبد المؤمن وأمكن أبا الفضل من إمارته على ما نذكر بعد وساءت الحال بينه وبين عمر ونهض إليه من فاس بجموع بني مرين وكافة العساكر واعتصم بجبله وقومه واستبد على الأمر من بعده ووصل عبد المؤمن من معتقله يجأجيء به بنو مرين لما كانوا يؤملون من ولايته واستبداده لما آسفهم من حجر الوزراء لملوكهم فلما رأوا استبداد عامر عليه أعرضوا عنه وانعقد السلم بينه وبين عمر بن عبد الله على ما كان عليه من مقاسمته إياه في أعمال المغرب ورجع واستقل عامر بناحية مراكش وأعمالها حتى إذ هلك عمر بن عبد الله بيد عبد العزيز ابن السلطان أبي الحسن كما نذكره حدثت أبا الفضل بن السلطان أبي سالم نفسه بالفتك بعامر بن محمد كما فتك عمه بعمر بن عبد الله ونذر بذلك فاحتمل كرائمه وصعد إلى داره بالجبل ففتك أبو الفضل بعبد المؤمن ابن عمه لأنه كان معتقلا بمراكش واستحكمت لذلك النقرة بينه وبين عامر بن محمد وبعث إلى السلطان عبد العزيز فنهض من فاس في جموعه سنة تسع وستين وسبعمائة.
وفر أبو الفضل فلحق بتادلا وتقبض عليه عمه السلطان عبد العزيز وقتله كما نذكر في أخباره وطلب عامرا في الوفادة فخشيه على نفسه واعتصم بمعقله فرجع إلى حضرته واستجمع عزائمه وعقد على مراكش وأعمالها لعلي بن أجانا من صنائع دولتهم وأوعز إليه بمنازلة عامر فدافعه عامر وقومه عن معتصمه وأوقع به وتقبض على طائفة من بني مرين وصنائع السلطان في المعركة أودعهم سجنه فحرك بها عزائم السلطان ونهض إليه في قومه من بني مرين وعساكر المغرب وأحاط به ونازله حولا كريتا ثم تغلب عليه سنة إحدى وسبعين وسبعمائة وانفضت جموعه وتقبض عليه عند اقتحام الجبل فسيق أسيرا إلى السلطان فقيده وقفل به إلى الحضرة ولما قضى نسك الفطر من سنته أحضره ووبخه ثم أمر به فتل إلى مصرعه وأثخن جلدا بالسياط وضربا بالمقارع حتى فاض عفا الله عنه وعقد السلطان على قومه لفارس ابن أخيه عبد العزيز كان نزع إليه بين يدي مهلك عمه وعفا عن ابنه أبي يحيى بسابقته إلى الطاعة قبيل اقتحام الجبل عليهم أشار عليه بذلك أبوه نظرا له فظفر بالسلامة والحظ وأصاره السلطان في جملته ثم هلك بعد ذلك فارس بن عبد العزيز واضطرم المغرب فتنة بعد مهلك السلطان عبد العزيز سنة أربع وسبعين وسبعمائة وصارت أعمال مراكش في إيالة السلطان عبد الرحمن بن علي الملقب بأبي يفلوسن ابن السلطان أبي علي ونزع إليه أبو يحيى بن عامر فعقد له على قومه ثم اتهمه باحتمال الأموال منذ عهد أبيه وشره إلى اسطفائه ونذر به ابن عامر فلحق ببعض قبائل المصامدة جيرانهم بأطراف السوس ونزل عليهم وكان مهلكه فيهم أعوام ثمانين وسبعمائة والله وارث الأرض ومن عليها.